أسواق غزة في زمن المجاعة... الشراء بالغرام

 


أسواق غزة في زمن المجاعة... الشراء بالغرام

 بات من الطبيعي في أسواق قطاع غزة أن يطلب المستهلكون شراء عشرة غرامات من خميرة الخبز أو 20 غراماً من السكر أو الكاكاو أو أوقية (250 غرام) من أي منتج آخر، فهذا المشهد يتكرر يومياً في الأسواق الشعبية ويعكس تحولاً لافتاً في نمط الشراء الاستهلاكي داخل القطاع المحاصر، نتيجة حرب الإبادة الجماعية وأوضاع اقتصادية خانقة ألقت بظلالها على تفاصيل الحياة اليومية.

وتشير هذه الظاهرة إلى واقع اقتصادي مأزوم تعيشه غزة في ظل استمرار الحصار الإسرائيلي وتداعيات الحرب المستمرة منذ قرابة العامين، حيث لم تعد القدرة الشرائية تسمح بشراء الكيلوغرامات أو الكميات المعتادة من السلع، ما دفع المواطنين للجوء إلى شراء أقل الكميات لتلبية احتياجاتهم الأساسية.

وتجدر الإشارة إلى أن التحول لا يقتصر على السلوك الاستهلاكي فحسب، بل شمل أيضاً أساليب البيع والتسعير لدى الباعة والتجار، الذين وجدوا أنفسهم مجبرين على التكيّف مع ضعف السيولة المالية لدى الغزيين، فعمدوا إلى تقسيم بضائعهم إلى وحدات صغيرة للغاية لتسهيل تصريفها في ظل شح السيولة.

تأقلم مع الأزمة

عن تلك الظاهرة المتصاعدة يقول الفلسطيني عماد العطار، من سكان مدينة دير البلح، إن الظروف الاقتصادية المتدهورة أجبرته على شراء العديد من السلع بالغرامات أو بالأوقية، بعدما كانت تُشترى بالكيلوغرام والرطل (453 غراماً) في السابق.

وأضاف العطار في حديثه: "بات من الطبيعي أن أطلب 20 غراماً من الكاكاو أو عشرة غرامات من الخميرة. حتى السكر الذي يعتبر سلعة أساسية، أصبح من الصعب شراؤه بالكيلوغرام بسبب سعره المرتفع بشكل جنوني".
وأوضح أن الباعة بدورهم غيروا آلية التسعير لتتناسب مع الواقع الاقتصادي الصعب، فبعد أن كانت الأسعار تُحدد بالكيلوغرام، باتت تعرض بالأوقية والغرام، في انعكاس مباشر لتراجع القدرة الشرائية لدى المواطنين، متابعاً: "السعر الذي كنا نشتري به الرطل قبل الحرب لا يكاد يكفي اليوم لشراء أوقية واحدة، وهو ما يوضح حجم التدهور الاقتصادي الذي نعيشه في غزة".
يذكر بائع السكر في سوق الأقصى في خانيونس أسامة أبو جلال أن سعر كيلوغرام السكر قفز من ثلاثة شواكل قبل الحرب إلى أكثر من 320 شيكلاً حالياً، ما جعل بيعه بالكيلوغرام أمراً مستحيلاً لغالبية الزبائن.

وأضاف: "حالياً نبيع السكر بالغرامات، حيث يطلب الزبائن 20 غراماً أو 40 غراماً بسعر عشرة شيكلات أو ما يعادل 20 شيكلاً، حسب قدرتهم، وقد أصبح سعر الأوقية 80 شيكلاً، وهو فوق قدرة أغلب المواطنين".
وذكر بائع الخميرة في سوق النصيرات فادي فايز أن البيع بالغرامات أضحى وسيلة ضرورية للتعامل مع المستهلكين، قائلاً: "سعر أوقية الخميرة تجاوز 150 شيكلاً، وهو مبلغ لا يستطيع دفعه معظم الزبائن، لذا نبيع عشرة غرامات بخمسة شواكل"، وأشار في حديثه ، إلى أن البيع المجزأ أصبح أكثر ربحية وسرعة في التصريف، نظراً للطلب المتزايد على الكميات الصغيرة، حيث لا يمتلك الكثير من الزبائن القدرة على شراء الكمية الكاملة من السلع، حتى الأساسية منها.

انهيار اقتصادي

ن جانبه، أعتبر المختص في الشأن الاقتصادي سمير أبو مدللة أن هذه الظاهرة مؤشر خطير إلى حالة الانهيار الاقتصادي التي يعيشها قطاع غزة المحاصر، قائلاً: "عندما يتحول شراء السلع الأساسية إلى عملية بالغرامات، فهذه دلالة واضحة على ضعف القدرة الشرائية بشكل حاد".
وأضاف أبو مدللة، في حديثه : "الأسعار ارتفعت بنسبة تصل إلى 7000% لبعض السلع مثل السكر، بينما يعاني المواطنون من نقص شديد في السيولة، وهو ما يجعلهم يتجهون لشراء الكميات القليلة فقط لتسيير حياتهم اليومية".

وتابع: "عندما تتحول وحدات البيع إلى الغرام والأوقية، فهذا يعني أننا أمام اقتصاد طارئ يعيش على حافة الانهيار، ما يتطلب تدخلاً دولياً عاجلاً لإنقاذ السوق المحلي ومنع تفككه الكامل"، لافتاً إلى أن إنهاء هذه الظاهرة لن يتم إلا من خلال إدخال كميات كافية من السلع بأسعار مناسبة، بالإضافة إلى معالجة مشكلة شح السيولة النقدية في السوق المحلي.

وبيّن أن هذه الظاهرة لا تعكس ضعف السيولة لدى المواطنين فقط، بل تكشف عن خلل هيكلي في السوق الغزي، حيث غابت الأدوات الرقابية وتراجعت معايير العرض والطلب الطبيعية بسبب الحصار ومنع دخول السلع.

واعتبر المختص في الشأن الاقتصادي، نسيم أبو جامع، أن الشراء بالغرامات أحد تجليات "التشوه الاقتصادي" الناتج عن الحصار ومنع دخول الشاحنات التجارية والمساعدات، وقال: "منذ خمسة أشهر لم تدخل أي مساعدات أو بضائع تجارية إلى غزة، ما خلق ندرة كبيرة ورفع الأسعار بشكل جنوني، خصوصاً مع حالة المجاعة المتفاقمة".

وأشار أبو جامع في حديثه ، إلى أن نحو 95% من سكان غزة باتوا يعتمدون على المساعدات الإنسانية، ومع استمرار إغلاق المعابر ومنع الإمدادات لم يعد بإمكان المواطن شراء أبسط الكميات، بل بات يبحث عن الحد الأدنى من احتياجاته اليومية.
وأضاف: "البيع بالغرامات ليس مجرد سلوك استهلاكي مؤقت، بل أصبح يمثل نظاماً غير رسمي لتوزيع السلع في ظل غياب البدائل، حيث إن غياب التدفق الطبيعي للبضائع حوّل الأسواق إلى بيئة عشوائية تتحكم فيها الندرة بدلاً من المنافسة".


إرسال تعليق

0 تعليقات

تعريف الارتباط

نستخدم ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة.