تحل السنة الدراسية الجديدة بينما عشرات آلاف الطلبة في قطاع غزة بين شهداء وجرحى وأيتام ومشردين، فيما تحولت عشرات المدارس إلى ركام، أو إلى مراكز إيواء مكتظة بالنازحين.
اعتاد طلبة قطاع غزة تجهيز حقائبهم وشراء الزي وبقية مستلزماتهم الدراسية مع حلول شهر سبتمبر/ أيلول من كل عام، استعداداً للعودة إلى مقاعد الدراسة ولقاء أصدقائهم ومعلميهم. غير أنّ هذا بات حلماً بعيد المنال للسنة الثالثة على التوالي نتيجة استمرار العدوان الإسرائيلي، والذي يحرمهم من مواصلة التعليم، ومن المأوى الآمن، ومن الطعام والشراب، وحتى من حق الحياة.
ومع غياب التعليم للعام الثالث في قطاع غزة، وتدمير البنية التحتية للمنظومة التعليمية، تُسلب أحلام المستقبل من جيل كامل مع حرمان الطلبة الحق الذي كفلته كل القوانين والمواثيق الدولية. وأفادت وزارة التربية والتعليم العالي الفلسطينية بأن عدد الطلبة الذين استشهدوا في قطاع غزة منذ بداية العدوان الإسرائيلي، بلغ 18.346 طالباً وطالبة، بينما أُصيب 27.884 آخرين، إضافة إلى اعتقال 740 طالباً، مع تدمير 160 مدرسة بالكامل، إضافة إلى 63 مبنى تابعاً للجامعات، وتعرضت 211 مدرسة للقصف والتخريب، إضافة إلى إزالة 25 مدرسة بطلبتها ومعلميها من السجل التعليمي.
ويقول المستشار الإعلامي لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، عدنان أبو حسنة، إن "الوضع التعليمي في قطاع غزة يمر بحالة انهيار كامل، ونحو 90% من مدارس القطاع تعرضت للتدمير الكامل أو الجزئي، ما أدى إلى حرمان أكثر من 650 ألف طالب من التعليم طوال العامين الماضيين".
وباءت بالفشل جميع محاولات "أونروا" وغيرها من المؤسسات لتوفير بدائل تعليمية عبر إنشاء خيام أو مساحات تعليمية داخل مراكز الإيواء بسبب الازدحام الشديد، أو موجات النزوح المتكررة، إلى جانب انعدام الكهرباء وشبكة الإنترنت، ومخاوف الأهالي من إرسال أبنائهم إلى تلك الأماكن البديلة للمدارس بسبب المخاطر الأمنية.
وأعلنت وزارة التربية والتعليم الفلسطينية نيتها تنظيم امتحانات الثانوية العامة إلكترونياً في سبتمبر المقبل، لكن هذه الخطوة تصطدم بواقع صعب يتمثل في كون آلاف الطلبة نازحين بلا كهرباء أو إنترنت أو بيئة آمنة تسمح لهم بالدراسة أو المراجعة أو التركيز.
تجسد طالبة الفرع العلمي بالثانوية العامة نور محمد صالح (18 سنة) نموذجاً لمعاناة طلبة قطاع غزة، إذ كان يفترض أن تتقدم لامتحانات الثانوية العامة في يونيو/حزيران 2024، لكن الحرب منعتها من ذلك. وتقول: "ضاع من عمري سنتان، ولم أتمكن من تحقيق حلمي بدخول كلية الهندسة. لم أدرس بشكل طبيعي بسبب النزوح والقصف وغياب المدارس والمعلمين، ولا أستطيع التركيز وسط كل هذا الخراب".
تضيف صالح: "خلال الحرب، جرى الإعلان عن إمكانية تقديم الامتحانات إلكترونياً، لكن ذلك لم يحدث، وقبل أيام جرى الإعلان مجدداً عن إجراء الامتحانات في سبتمبر القادم إلكترونياً أيضاً، لكن استمرار الحرب والقصف والنزوح يجعل آمالي تتلاشى. أتمنى أن أتقدم للامتحانات هذه المرة حتى أنهي هذه السنة التي أصبحت بمثابة كابوس يلاحقني، ففقدان سنتين من عمري يجعلني أفقد الدافعية لمواصلة التعليم. إن قررت الوزارة عقد امتحانات إلكترونية، فكيف لي أن أستعد بينما أنا نازحة أعيش وسط القصف والخوف؟".
لا تتوقف المأساة عند حد الحرمان من التعليم، بل تخطّته إلى الحرمان من الحق في الحياة، كما حدث مع الطالب محمد تيسير أحمد، والذي كان من المفترض أن يلتحق هذا العام بالصف العاشر، لكنّه استشهد في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، بقصف استهدف منزل عائلته في مخيم النصيرات بالمحافظة الوسطى، وكان حينها في الصف الثامن.
تقول خالته أنهار محمد، والتي كانت تقطن في نفس المنزل، وأصيبت في القصف، : "أنهت الحرب مسيرة محمد التعليمية إلى الأبد، وحرمته إسرائيل، وآلاف الطلبة مثله، من حقهم في التعليم، ومن حقهم في الحياة أيضاً. كانت المدارس حاضنة لهم، لكنها تحولت إلى أهداف عسكرية، أو ملاجئ للنازحين".
استشهدت الطفلة ميس رمضان أيضاً، وكانت في الصف الخامس، وكان يفترض أن تُكمل المرحلة الإعدادية في العام القادم، لكن صوت القذيفة سبق صوت جرس المدرسة الذي اعتادت عليه كل عام قبل اندلاع الحرب. يروي والدها تامر رمضان لـ: "كانت ميس تحلم مثل كل أطفال العالم بأن تكمل تعليمها، وتحقق أحلامها، لكن إسرائيل لا تريد ذلك لأطفال قطاع غزة، فهو يقصفهم وهم آمنون في بيوتهم، كما يدمّر مدارسهم. الجيش الإسرائيلي يدمّر البشر والحجر منذ بداية الحرب، وخصوصاً المدارس، ضمن محاولاته لتجهيل الفلسطينيين. ولا يكتفي بترك الطلبة من دون تعليم، بل يتعمد قتلهم".
أصيبت شذا حمدان (12 سنة) في قصف إسرائيلي وقع في ديسمبر/ كانون الأول 2023، ما أدّى إلى بتر ساقها، ومنذ ذلك اليوم، توقفت عن الدراسة. يقول والدها كريم حمدان لـ : "باتت شذا تعيش على كرسي متحرك، وكان يفترض أن تدخل الصف السابع، لكنها لم تتمكن من ذلك نتيجة الإصابة والحصار والنزوح وتدمير المدارس. تحلم شذا بالعودة إلى المدرسة، لكن غياب البنية التحتية المناسبة يحول دون ذلك، والتعليم صار بالنسبة لها حلماً بعيد المنال، كما هو حال آلاف الأطفال من أقرانها".
الوضع ذاته يعيشه هاني الراضي (15 سنة) الذي يعيش مع عائلته في خيمة قرب ميناء غزة غربي المدينة، فقد أصيب مرتين خلال الحرب، وأصبح يتحرك عبر عكازين، واضطر للنزوح مع أسرته من بلدة بيت لاهيا شمالي القطاع. يقول والده : "كان ابني في الصف الثامن، واليوم كان يجب أن يكون في الصف العاشر. لكن بدلاً من الدراسة، يقضي وقته في المساعدة في تعبئة المياه وجمع الحطب. الحرب كبّرت الأطفال قبل أوانهم، وحوّلتهم إلى بالغين يتحملون مسؤوليات كبيرة، كما أبعدتهم عن مقاعد الدراسة. لم يعد للتعليم أي وجود في حياتهم، بل تحوّلت الأولوية إلى البحث عن الماء والطعام والحطب".
كان من المفترض أن تلتحق الطفلة ندى صلاح (12 سنة) هذا العام بالصف السابع، لكنها لم تتمكن من ذلك بسبب النزوح المتكرر، والقصف والدمار. تقول: "في شهر سبتمبر 2024، وأثناء نزوحنا في جنوبي القطاع، التحقت بإحدى الخيام التعليمية في منطقة الزوايدة، ودرست بعض مواد الصف الخامس، وبعد العودة إلى بيتنا في مدينة غزة، التحقت في شهر مارس/ آذار الماضي، بإحدى الخيام التعليمية القريبة من منطقتنا، ودرست مواد العربي والرياضيات والإنكليزي والعلوم من الصف السادس، ولكن ليس بشكل كامل. الخيام التعليمية لا توفر لنا كل المنهاج، ولا تعوضنا ما فاتنا من سنوات دراسية".
وتوضح أبو القمبز أن "الكثير من أطفال القطاع باتوا يعتمدون على أنفسهم في كسب الرزق، إذ يبيعون في الأسواق، أو يمارسون أعمالاً شاقة، ما يزيد من انقطاعهم عن التعليم، ويدفعهم إلى أنماط سلوكية خطرة، كالسرقة والتسول. المدارس ليست مكاناً للتعليم فقط، بل فضاء لبناء الشخصية الاجتماعية وضبط السلوك، وغيابها يعني فقدان الأطفال لتوازنهم النفسي والاجتماعي، وتحويلهم إلى جيل ناقص أو معطوب السلوكيات".
وتضيف: "لدى وزارة التعليم خطة طوارئ في ظل الأزمات التي تعصف بالقطاع، تتمثل في التعليم الإلكتروني، أو إنشاء بعض الخيام التعليمية في مختلف المناطق، لكن بسبب طول مدة الحرب، وعدم توفر الاستقرار الأمني، وكثرة النزوح، فقدت هذه الوسائل قدرتها على تحقيق أهدافها، أو تعويض الفجوة التعليمية. إنقاذ مستقبل أطفال غزة يتطلب أكثر من هذه المبادرات الإسعافية؛ يتطلب وقف الحرب، وإعادة إعمار المدارس، وتوفير بيئة تعليمية آمنة من شأنها إعادة الأمل للطلبة الذين عاشوا ويلات النزوح والحرمان والقصف والدمار على مدار 23 شهراً".
العربي الجديد
0 تعليقات