يبرز فصل جديد من فصول الصراع في غزة تحت عنوان "إدارة المساعدات الإنسانية"، في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي وتفاقم الأزمة الإنسانية التي تعصف بأكثر من مليوني فلسطيني، إذ تتزايد التحذيرات الدولية من الآليات التي تعتمدها إسرائيل بالتعاون مع جهات أميركية في توزيع المساعدات، وسط اتهامات بتحويل الإغاثة إلى أداة ضغط سياسي بعيداً عن المبادئ الإنسانية الأساسية.
في اليومين الماضيين نقل الإعلام الإسرائيلي عن مصادر بالجيش البدء بتجهيز أربع نقاط لتوزيع المساعدات في قطاع غزة، ثلاث منها بمدينة رفح المدمرة مُهجّرة السكان، بينما أقيمت النقطة الرابعة على محور نتساريم والمعسكرات المركزية، بمحاذاة طريق صلاح الدين، مؤكداً أن هذه النقاط ستبدأ عملها رسمياً خلال الأيام المقبلة، ضمن خطة تنفذ بتعاون أميركي إسرائيلي مباشر.
وتشير مصادر عبرية إلى أن هذه النقاط ستخضع لحماية مشددة من الجيش الإسرائيلي، بينما ستتولى شركة أميركية خاصة عملية التنظيم والإشراف على توزيع المساعدات، في نموذج جديد لإدارة الإغاثة خارج الأطر الأممية التقليدية. يأتي ذلك في وقت يوسّع فيه الجيش الإسرائيلي عملياته العسكرية إذ قالت وسائل إعلام عبرية، مساء أول من أمس السبت، إنّ الجيش الإسرائيلي أدخل جميع ألويته النظامية من المشاة والمدرعات إلى قطاع غزة المحاصر، في إطار تحشيد عسكري متواصل منذ أيام.
تقويض العمل الإنساني
هذا النموذج لتوزيع المساعدات، حسب مراقبين ومنظمات دولية، يثير كثيراً من الجدل، إذ يتهم بتقويض العمل الإنساني المستقل، وتهميش دور المؤسسات الدولية ذات الخبرة، وعلى رأسها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" وبرنامج الأغذية العالمي. كما يرى منتقدو الخطة أنها تُحوّل المساعدات إلى أدوات خاضعة لسلطة الإسرائيليه، ما يعكس استغلالاً سياسياً لأزمة إنسانية لا تحتمل المزيد من التلاعب.
في هذا السياق، تتعالى الدعوات الدولية بضرورة احترام المبادئ الإنسانية والالتزام بالقانون الدولي، خاصة في ظل وجود نموذج أممي جاهز لتولي المهمة، بدلاً من فرض آليات توزيع مشبوهة، تنذر بتكريس سياسات التجويع، وتقزم دور المؤسسات التي لطالما كانت شريان حياة للفلسطينيين في أوقات الأزمات. وأكد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، أن مؤسسته "لن تشارك بأي مخطط يتعلق بالمساعدات في غزة، يفشل باحترام القانون الدولي ومبادئ الإنسانية والنزاهة والاستقلال والحياد"، مشدداً على أن الأمم المتحدة تمتلك خطة بديلة مفصلة، تستند إلى تلك المبادئ، ومدعومة من الدول الأعضاء.
تقنين الحصار
بدوره، قال رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، رامي عبده، إن الخطة الأميركية الإسرائيلية الخاصة بتوزيع المساعدات في قطاع غزة، ليست مشروعاً إنسانياً كما يُروّج لها، بل مناورة مدروسة تهدف إلى تقنين الحصار وتجويع السكان وتحويل الطعام إلى أداة ضغط وإخضاع. وأوضح عبده في حديث لـ"العربي الجديد" أن هذه الخطة التي تسند توزيع كميات محدودة من المساعدات إلى شركات دولية تخضع لرقابة مشددة، تدار فعلياً من عسكريين أميركيين سابقين ومنظمات لا تتمتع باستقلالية حقيقية، معتبراً أن ما يحدث هو انتهاك صارخ للقانون الدولي الذي يوجب إدخال المساعدات بشكل فوري وفعال ودون عوائق.
وشدد على أن السبيل الوحيد لضمان كرامة الفلسطينيين وحقهم في الحياة هو السماح العاجل والفعال بإدخال جميع الاحتياجات المعيشية ومقومات البقاء، بما يتيح لهم الصمود على أرضهم وبناء مستقبلهم دون ابتزاز أو تجويع. وأشار إلى أن محاولة الالتفاف على المنظومة الإنسانية الأممية عبر آليات عسكرية وتجارية لا يمكن أن تندرج إلا ضمن السياسات الإسرائيليه لإعادة تغليف الحصار بصيغة إنسانية زائفة، داعياً المجتمع الدولي إلى رفض هذه الخطة واتخاذ موقف حازم لدعم الإغاثة المستقلة والعادلة.
الابتزاز والحرمان
من جانبه، قال المختص في الشأن الاقتصادي عماد لبد إن الخطة الأميركية الإسرائيلية لتوزيع المساعدات في جنوب قطاع غزة لا تقوم على أسس إنسانية حقيقية، بل هي خطة قائمة على الابتزاز والحرمان، جاءت بعد أشهر من تجويع السكان وتذويب إرادتهم تحت وطأة أوضاع اقتصادية وإنسانية متدهورة. وأوضح لبد في حديث لـ"العربي الجديد" أن هذه الخطة ليست سوى محاولة جديدة من الجيش الإسرائيلي لترسيخ سيطرته على الأرض، بعد أن خلق واقعاً إنسانياً جعل قرابة 95% من سكان القطاع معتمدين بشكل شبه كلي على المساعدات، وهو واقع جاء نتيجة سياسات ممنهجة حُرم فيها الفلسطينيون من أبسط حقوقهم الاقتصادية، بما في ذلك فرص العمل.
وأشار إلى أن إسرائيل رفعت نسبة البطالة إلى أكثر من 83%، فيما تجاوزت نسبة الفقر حاجز 90%، وهو ما يعكس مدى الانهيار الاقتصادي الذي يعانيه القطاع في ظل استمرار الحصار والإغلاق الكامل للمعابر. وأكد لبد أنه لا يمكن الحديث عن أي انتعاشة اقتصادية في غزة طالما استمرت حملات التجويع المنظمة ومنع إدخال المواد الأساسية وحرمان الفلسطينيين من التبادل التجاري والعمل والتواصل مع العالم الخارجي، مشدداً على أن الأمل الوحيد يكمن في فتح المعابر الدائم، ورفع القيود المفروضة على الاقتصاد المحلي، وضمان حصول الفلسطينيين على حقوقهم الاقتصادية الأساسية. واختتم حديثه بالتأكيد أن خطة توزيع المساعدات بشكلها الحالي لا تسهم بحل الأزمة، بل تعمق من التبعية وتعزز السياسات الإسرائيليه في السيطرة الميدانية عبر أدوات اقتصادية وإنسانية.
0 تعليقات