المواجهات بين رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وسلطة القضاء في دولة إسرائيل عديدة وليست جديدة، منها ما يتعلق بملفات وتصرفات شخصية لنتنياهو، ومنها ما يتعلق بقناعات نتنياهو الأيديولوجية المحافِظة تجاه السلطة القضائية ووظيفتها. ومنها أيضاً ما يتعلق بملفات سابقة تتعلق بتهم الفساد والرشوة وخيانة الأمانة بعدة ملفات فتحت عام 2015، وبفحص دور الحكومة ونتنياهو شخصياً بالإخفاق الكبير في السابع من أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي. كذلك تتعلق مواجهات داخلية في إسرائيل حالياً، بملفات جديدة في ما يخص تسريب مستندات سرية من شعبة الاستخبارات العامة في الجيش الإسرائيلي لصحف أجنبية عبر المستشار الإعلامي إيلي فيلدشتاين الذي عمل في مكتب نتنياهو، بهدف تغيير المزاج العام في إسرائيل تجاه قضية تبادل الأسرى والمحتجزين مع "حماس"، واتهام رئيس طاقم نتنياهو، تساحي بروفرمان، بتغيير بروتوكول جلسات الحكومة يوم السابع من أكتوبر 2023.
في الأسابيع الأخيرة، وعلى ما يبدو بسبب ارتفاع منسوب الثقة لدى نتنياهو بسبب الإنجازات العسكرية في جبهة لبنان، من منظار إسرائيلي، وتراجع حدة القتال في قطاع غزة، ونجاحه بإقالة وزير الأمن يوآف غالانت، في الخامس من الشهر الحالي، واستبداله بوزير الخارجية يسرائيل كاتس، دون احتجاج جماهيري جدي، والشعور باقتراب انتهاء الحرب أو على الأقل المعارك الواسعة في الحرب، بدأ نتنياهو بحملة تحريض جديدة وواسعة تجاه السلطة القضائية بما يشي بتسعير مواجهات داخلية في إسرائيل. من ضمن هذه الحملة السعي لإقالة المستشارة القضائية للحكومة، غالي بهاراف - ميارا، وتهديد رئيس جهاز المخابرات العامة (الشاباك)، رونين بار، بالإقالة بسبب ملفات التحقيق الجديدة، ومنها محاولة نتنياهو التهرب من الإدلاء بشهادته أمام المحكمة (المركزية في القدس المحتلة) بتهم الفساد، المقررة في الثاني من ديسمبر/ كانون الأول المقبل. والأبرز في هذا السياق، سعي نتنياهو لمنع إقامة لجنة "تحقيق رسمية" يرأسها قاضٍ من المحكمة العليا (حالياً القاضية إستر حايوت)، للتحقيق في إخفاق السابع من أكتوبر، وسعيه لتعيين لجنة فحص حكومية بدلاً من ذلك.
يريد نتنياهو إبعاد تهمة الإخفاق الكبير عنه وعن سياساته تجاه غزة وحركة حماس في العقدين الأخيرين
مواجهات داخلية في إسرائيل حول التحقيق بأحداث 7 أكتوبر
في سياق فتح مواجهات داخلية في إسرائيل، يرفض نتنياهو إقامة لجنة تحقيق رسمية في أحداث السابع من أكتوبر، ويرفض البدء بأي تحقيق في ذلك قبل انتهاء الحرب، كما صرح في عدة مناسبات. يريد نتنياهو إبعاد تهمة الإخفاق الكبير عنه وعن سياساته تجاه غزة وحركة حماس في العقدين الأخيرين، إذ شغل نتنياهو منصب رئيس الحكومة مدة 14 عاماً من أصل 15 بين الأعوام 2009 لغاية 2023. وهو من حدد ونظم العلاقات والسياسات تجاه غزة و"حماس"، وخصوصاً السماح بإدخال أموال مساعدات قطرية إلى قطاع غزة، جاءت نتيجة طلب الحكومة الإسرائيلية من الحكومة القطرية لمنع تحويل الأعباء الاقتصادية في غزة على الحكومة الإسرائيلية. وهو أيضاً من سوَّق مقولة أن إسرائيل نجحت في ردع "حماس" عن القيام بعمليات عسكرية ضد إسرائيل، وأن هدف "حماس" الأساس تحسين الأحوال الاقتصادية في غزة والحفاظ على حكمها. تلك الاستراتيجية انهارت في السابع من أكتوبر.
وفي سعيه لتعميق مواجهات داخلية في إسرائيل أصبحت موجودة، فإنه بدل إقامة لجنة "تحقيق رسمية"، يقول نتنياهو إنه يفضّل إقامة لجنة "فحص حكومية" بعد انتهاء الحرب. تُقام لجنة تحقيق رسمية، وفق القانون الإسرائيلي، بقرار من الحكومة أو بقرار من لجنة "شؤون رقابة الدولة" في الكنيست (البرلمان)، لإجراء تحقيق متعمّق في مواضيع جوهرية أو طارئة تقع في قلب الأجندة العامة. ويُعيَّن رئيس اللجنة وأعضاؤها من قبل رئيس المحكمة العليا، بحيث يجب أن يكون رئيس اللجنة قاضياً في المحكمة العليا. في جميع الحالات، في الوضع الراهن وبسبب الأغلبية القائمة للتحالف الحكومي في الكنيست وفي لجان الكنيست، فإن قرار إقامة لجنة تحقيق رسمية موجود بيد التحالف الحكومي، ونتنياهو خصوصاً. لجان التحقيق الرسمية لجان مستقلة ورسمية، وتملك، وفق القانون، صلاحيات وأدوات واسعة، مثل القدرة على إجبار المؤسسات الرسمية أو غيرها، ومواطنين عاديين، على تقديم أي مستندات تطلبها اللجنة، ولديها السلطة على إجبار شهود على المثول أمام اللجنة، وتقديم توصيات شخصية بحق متهمين.
منذ أن سُنّ قانون لجان التحقيق عام 1968، شُكِّلَت 16 لجنة تحقيق رسمية بقرار حكومي، وأربع لجان بقرار من لجنة "شؤون رقابة الدولة" في الكنيست. الأبرز من بين هذه اللجان كانت اللجان التي حققت في مواضيع وإخفاقات عسكرية، منها "لجنة أغرانات" (1973) للتحقيق في "ملابسات بدء حرب يوم الغفران" (حرب 6 أكتوبر)، و"لجنة كوهين" للتحقيق في "الأحداث في مخيمات اللاجئين في بيروت - صبرا وشاتيلا" (1982)، و"لجنة شمغار" (1994) للتحقيق في مجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل بالضفة الغربية المحتلة، و"لجنة شمغار" (1995) للتحقيق في اغتيال رئيس الوزراء الأسبق إسحاق رابين. ومن الجدير ذكره أنه في فترة حكم نتنياهو، بين الأعوام 1996 و1999، ومنذ عام 2009، لم تُعيَّن أي لجنة تحقيق رسمية في أي موضوع كان.
بالمقابل، فإنه تُشكَّل لجنة "فحص حكومية"، بقرار من وزير في الحكومة الإسرائيلية، لغرض فحص مسألة في نطاق صلاحياته ومسؤولياته. ويمكن أن يرأس اللجنة أي شخص، ويمكن أن يكون قاضياً. وفي حال تعيين قاضٍ لرئاسة اللجنة، يجوز لوزير القضاء، بناءً على طلب الوزير المكلف وبموافقة الحكومة، أن يقرر أن تكون لتلك اللجنة صلاحيات لجنة تحقيق رسمية. تقدّم لجنة الفحص الحكومية نتائج التحقيق وتوصياتها إلى الوزير المكلف، الذي يرفعها بدوره إلى الحكومة. وتدرس الحكومة النتائج والوقائع وتتخذ القرارات، وهي التي تحدد خيارات تنفيذ التوصيات والعقوبات السياسية المترتبة عن نتائج التحقيق.
هناك ثلاثة اختلافات أساسية بين "لجنة التحقيق الرسمية" ولجنة "الفحص الحكومية"، التي تعكس وجود مواجهات داخلية في إسرائيل. أولاً في جانب تعيين أعضاء اللجنة، إذ في حالة لجنة الفحص الحكومية، تقوم الحكومة أو الوزير الذي يبادر لإنشاء اللجنة، باختيار أعضائها أيضاً، بينما في حالة لجنة التحقيق الرسمية، تقوم الحكومة فقط بتشكيل اللجنة، ويكون تعيين الأعضاء من قبل رئيس المحكمة العليا. ثانياً من جانب رئيس اللجنة، ففي حين أن لجنة التحقيق الرسمية يجب أن يرأسها قاضٍ (حالي أو متقاعد) من المحكمة العليا، فإنه في لجنة الفحص الحكومية يكفي أن يكون الرئيس قاضياً في المحكمة المركزية. ثالثاً حول الجدول الزمني للجان، ففيما لا تُحدَّد مدة عمل اللجنة وموعد تقديم التوصيات، فإن لجان الفحص الحكومية عادة ما تُكلَّف بفترة عمل محددة قصيرة.
تدعم المؤسسة العسكرية الإسرائيلية إقامة لجنة تحقيق رسمية
بناءً على هذه الفروق، ليس صدفة أن يتجه نتنياهو، كما يلمّح لغاية الآن، إلى تفضيل إقامة لجنة "فحص حكومية"، إذ يمكّنه ذلك من اختيار أعضاء اللجنة ورئيسها، وتحديد مواضيع الفحص وطبيعة العمل والأدوات. كذلك يمكن للحكومة في هذه الحالة السيطرة على أداء اللجنة وعملها، خصوصاً إذا كان رئيس اللجنة، كما يمكن التكهن، مقرباً من رئيس الحكومة نتنياهو. والأهم أن هذا يمكنه من منع تدخّل المحكمة العليا في ترتيبات إقامة اللجنة، وهو ما تعارضه عائلات المحتجزين الإسرائيليين. كذلك تدعم المؤسسة العسكرية إقامة لجنة تحقيق رسمية، كما جاء على لسان رئيس شعبة الاستخبارات المستقيل أخيراً، أهرون حليفا، في كلمة التنحي عن مهامه، في إبريل/ نيسان الماضي، على خلفية فشله في كشف عملية السابع من أكتوبر، ورئيس الأركان هرتسي هليفي في عدة مناسبات.
تقييد التحقيق بواسطة قانون
وبموازاة مواجهات داخلية في إسرائيل بدت واضحة، نشرت وسائل إعلام إسرائيلية، منتصف الشهر الحالي، أن نتنياهو بدأ فعلاً الترويج لإقامة لجنة "فحص خاصة" لأحداث السابع من أكتوبر 2023، وليس لجنة تحقيق رسمية، من طريق سنّ قانون خاص في الكنيست لهذا الغرض. وقد نشرت القناة 13، الأربعاء 20 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، أن تعيين رؤساء اللجنة وأعضائها سيكون، وفقاً للاقتراح، بالاتفاق مع المعارضة في الكنيست، بحيث سيكون هناك رئيسان للجنة، واحد يعينه التحالف الحكومي، والثاني تعينه المعارضة، بالإضافة إلى ممثلين عن الجيش وعن عائلات "ضحايا" السابع من أكتوبر. وإن كان هناك عدم اتفاق بين أعضاء اللجنة بشأن الاستنتاجات، يمكن للجنة أن تنشر كلا الاستنتاجين، أي نشر فصلين منفصلين حول الاستنتاجات، كل واحد يعبّر عن موقف. بذلك يمكن أن تتحول استنتاجات اللجنة إلى موضوع خلافي، بالإمكان تأويلها بناءً على هوية وموقف عضو اللجنة، ولن يكون هناك إجماع على الاستنتاجات، بخلاف حالات سابقة. الأبرز في صيغة القانون المقترح وجود بند يمنع التحقيق في "الأحداث المرتبطة بالمجزرة، بأي طريقة أخرى غير تلك المنصوص عليها في الاقتراح". بذلك يرمي نتنياهو، بواسطة قانون، لمنع أي إمكانية أخرى للتحقيق بأحداث السابع من أكتوبر.
يرغب نتنياهو في السيطرة على تشكيل لجنة الفحص وأعضائها والتحكم في سير عملها وأهدافها
إلقاء اللوم على المستوى العسكري
في ظل وجود مواجهات داخلية في إسرائيل، فإن اقتراح نتنياهو ليس مفاجئاً، ويعبّر بوضوح عن رغبته في السيطرة على تشكيل لجنة الفحص وأعضائها، والتحكم في سير عملها وأهدافها، والأهم أنه لا يريد تدخّل رئيس المحكمة العليا في تشكيل اللجنة وعملها. نتنياهو لا يثق بالمحكمة العليا بتركيبتها الحالية، ولا في قضاتها، ولا في نياتهم، ويعتبرهم معادين له ولحكومته ومشاريعها، خصوصاً بعد الخطة الحكومية لتقييد القضاء (العام الماضي). كذلك يريد نتنياهو لجنة فحص مع سقف صلاحيات منخفض لا تحفر كثيراً في جوانب اتخاذ القرار السياسي، ووضع الاستراتيجية تجاه "حماس" في العقدين الأخيرين، بل أن تتركز في جوانب الأداء العسكري والمخابراتي قبل يوم السابع من أكتوبر. بذلك، يكون تسليط الضوء، وربما المسؤولية، على الجوانب العسكرية والمخابراتية وإخفاقاتها، وليس على الجانب السياسي. مواقف نتنياهو وتصرفاته تجاه جهاز القضاء، وموقفه من إقامة لجنة تحقيق، تشي بأنه بدأ بالترتيبات الداخلية لليوم التالي للحرب. وتوضح أن التصدعات السياسية التي كانت قبل "طوفان الأقصى"، والخلافات على سياسات الحكومة ومحاولاتها لفرض تغيير جوهري في طبيعة النظام في إسرائيل، ستستمر أيضاً بعد انتهاء الحرب. ما يعني استمرار عدم الاستقرار السياسي والخلافات الحادة بين المشاريع المتنافسة على طبيعة وقيادة المشروع الصهيوني ودولة إسرائيل.