جاء القرار الإسرائيلي بالسماح بإدخال المساعدات إلى قطاع غزة عبر ممرات برية وأخرى عبر إنزالات جوية منظمة مع دول عدّة في المنطقة، مخالفاً للسلوك الميداني القائم على استهداف الغزيين من منتظري المساعدات في مختلف نقاط توزيعها. القرار الإسرائيلي، شمل سلسلة من التسهيلات بالتزامن مع حراك ميداني شعبي على مستوى العالم، لإدخال المساعدات إلى غزة بانتظام، عبر الممرات البرية، إلى جانب تحركات لدول أوروبية تدعو لوقف التجويع في القطاع، في ضوء تتابع حالات الوفاة في صفوف الأطفال والمرضى، بسبب المجاعة.
اللافت أن القرار الإسرائيلي، الذي بدأت إسرائيل أمس الأحد بتطبيقه، جاء بعد نحو ثلاثة أيام من الإعلان، لا سيّما من الجانب الأميركي، عن تعثر المفاوضات غير المباشرة بين حركة حماس والاحتلال الإسرائيلي التي كانت تجري في الدوحة، لإبرام اتفاق يشمل هدنة لـ60 يوماً وتبادل أسرى ومحتجزين. وتفرض إسرائيل حصاراً مشدداً على القطاع منذ الثاني من مارس/آذار الماضي، ضمن سلسلة من الإجراءات التي فرضها قبل أن يخرق اتفاق 19 يناير/ كانون الثاني الماضي لوقف إطلاق النار ويستأنف حرب الإبادة في 18 مارس الماضي.
وعلى وقع تزايد الضغوط الأممية والدولية على دولة إسرائيل لإدخال المساعدات إلى غزة ورفع الحصار، أعلن الجيش الإسرائيلي، مساء أول من أمس السبت، أنه أسقط مساعدات إنسانية جواً في قطاع غزة "بناء على توجيهات القيادة السياسية"، مضيفاً أن "عملية الإسقاط شملت سبعة طرود مساعدات تحتوي على دقيق وسكر وأطعمة معلبة". يشير ذلك إلى أن هذه المساعدات لا تعادل نصف شاحنة من الشاحنات التي تدخل عبر المعابر، كما ذكر الجيش أنه "تقرر تحديد ممرات إنسانية يُسمح فيها لقوافل الأمم المتحدة والمنظمات الدولية بالتحرك الآمن لغرض إدخال المواد الغذائية والأدوية إلى سكان غزة". وفي بيان لاحق أمس، أعلن جيش الاحتلال "تعليقاً تكتيكياً" يومياً لعملياته العسكرية سيبدأ في مناطق عدّة في قطاع غزة اعتباراً من الأحد (أمس) "من الساعة العاشرة صباحاً وحتى الساعة الثامنة مساء"، مضيفاً أن هذا التعليق سيشمل المناطق التي لا يتحرّك فيها الجيش "وهي المواصي (خانيونس) ودير البلح ومدينة غزة، وسيكون يومياً حتّى إشعار آخر".
وقالت مصادر ، أمس، إنّ السلطات الإسرائيليه وافقت على طلبات لمؤسّسات عربية ودولية لإدخال مساعدات عبر مصر والأردن، شرط تسليمها لجهات دولية في غزة. من جهتها اعتبرت حركة حماس، في بيان أمس، أن لجوء الجيش الإسرائيلي إلى إنزال المساعدات جواً فوق مناطق بالقطاع "خطوة شكلية ومخادعة"، تهدف إلى "تبييض صورته أمام العالم" في ظل الإبادة والتجويع اللذين تمارسهما تل أبيب بحق أكثر من 2.4 مليون فلسطيني في القطاع المحاصر. وكان المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى "أونروا"، فيليب لازاريني، قد أعلن في وقت سابق رفضه عمليات الإنزال الجوي قائلاً إن "الإنزال الجوي للمساعدات لن ينهي المجاعة، بل قد يقتل المجوّعين في غزة". من جهته قال وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، توم فليتشر، على منصة إكس أمس، إن فرق الأمم المتحدة ستكثف جهودها لإطعام الفلسطينيين في غزة خلال الهدن التي أعلنتها إسرائيل في مناطق محددة.
في موازاة ذلك كانت إسرائيل تواصل استهداف طالبي المساعدات، الذين استشهد 22 منهم على الأقل أمس، عدد منهم في منطقة السودانية، شمال غربي قطاع غزة، فيما أعلنت وزارة الصحة في غزة، أمس، تسجيل ستّ حالات وفاة إضافية خلال الـ24 ساعة الماضية جراء المجاعة وسوء التغذية، من بينهم طفلان. يرفع ذلك حصيلة وفيات الجوع إلى 133، بينهم 87 طفلاً منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
خطط لهندسة الواقع
اعتبر مدير مركز عروبة للأبحاث والدراسات الاستراتيجية، أحمد الطناني، أن خطوة الاحتلال بشأن إدخال المساعدات إلى غزة "لا تنفصل عن مساعيه المستمرة لهندسة الواقع في قطاع غزة"، مضيفاً لـ"العربي الجديد"، أنها خطوة "باتت ضرورية بالنسبة لحكومة الاحتلال، بعد محاولات مستفيضة لتحويل آلية المساعدات الأميركية (عبر مؤسّسة غزة الإنسانية المرفوضة أممياً) إلى آلية فعّالة"، ولفت الطناني إلى أن "هذه المحاولات فشلت على أكثر من صعيد، وتحولت إلى عامل ضغط على الاحتلال، نتيجة الأعداد اليومية من الشهداء على أبواب مراكز التوزيع الأميركية، والمشاهد القاسية للتجويع في قطاع غزة"، وأوضح أن تل أبيب سعت لتحويل آلية المساعدات والتجويع "إلى وسيلة ضغط على المقاومة، عبر قهر المجتمع وتجويعه، وإدخاله في نموذج من الصوملة والاقتتال الداخلي على لقمة العيش".
أحمد الطناني: الآلية الجديدة لا تمثّل عودة حقيقية للآلية السابقة التي كانت تحت إشراف الأمم المتحدة وهيئاتها
وفي رأيه فإن "الضغط العكسي الناتج عن الصور المؤلمة الخارجة من القطاع، وأعداد الضحايا المرتفعة، دفع الاحتلال، تحت وطأة الضغوط بما في ذلك ضغوط حلفائه، إلى تغيير الآلية، مع إحاطة إعلامية مكثفة، تهدف إلى الحد من التفاعل العالمي مع المجاعة والحصار في غزة، وذلك دون التنازل عن الجوهر الاستراتيجي لمحاولاته في هندسة القطاع عبر بوابة المساعدات". وأشار إلى أن الآلية الجديدة "لا تمثّل عودة حقيقية للآلية السابقة التي كانت تحت إشراف الأمم المتحدة وهيئاتها، بل تتضمن آليات قسرية لتنظيم حركة المساعدات وأماكن توزيعها، بما يتماشى مع الخطط العسكرية الإسرائيلية الحالية والمستقبلية"، وشدد على أن هذا السلوك "يكشف عن نيّات الاحتلال الفعلية لإطالة أمد المواجهة في قطاع غزة، وتجاوز الاستحقاق الراهن ومسار المفاوضات، والتجهّز لمرحلة جديدة من العمليات العدوانية التي يُفترض أن تلي عملية عربات جدعون (منذ مايو/ أيار الماضي) التي انتهت فعلياً، دون إنهاء مفاعيلها، إذ لا يزال جيش الاحتلال يسيطر، عملياً أو بالنيران، على أكثر من 70% من مساحة القطاع".
هدف إدخال المساعدات إلى غزة
من جانبه، قال الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، إنّ خطوة إدخال المساعدات إلى غزة جاءت في ظل توقف المفاوضات مع حركة حماس والرفض الأميركي لها، بعد تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومبعوثه إلى الشرق الأوسط ستيف يتكوف ورئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو التي جاءت مفاجئة للمشهد التفاوضي، إذ كانت كل المؤشرات تشير إلى تقدم في تلك المفاوضات، وأضاف لـ"العربي الجديد" أن الهدف الرئيسي لواشنطن وتل أبيب "هو الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين ثم طرد حركة حماس من غزة دون البحث في شكل اليوم التالي بعد انتهاء الحرب". هذه السياقات، وفق إبراهيم، هي "المحدد الرئيسي لعملية إدخال المساعدات الإنسانية للقطاع، إذ يجري فيها تجاوز حركة حماس بالذات، مع توقف عملية التفاوض المتعلقة في الوصول إلى هدنة لمدة 60 يوماً".
وفي رأيه فإنّ "من بين السيناريوهات المطروحة أن يكون هناك رؤية أميركية لاحقاً لإنهاء الحرب تماماً، دون أن تكون حماس جزءاً من مشهد اليوم التالي في إدارة وحكم غزة". غير أن هذا الأمر، وفق إبراهيم، مرتبط "بالدرجة الأساسية بالموقف الأميركي". وأوضح أن السلوك الأميركي والإسرائيلي "استند منذ بداية حرب الإبادة في غزة على عمليات التضليل"، وبالتالي فإنّ عمليات إدخال المساعدات إلى غزة "تزامنت مع غضب وضغط عالمي رافض للسلوك الإسرائيلي بالذات مع مشاهد الوفاة في صفوف الأطفال نتيجة الجوع".
حسام الدجني: لإسرائيل أهدافاً سياسية من وراء خطوة إدخال المساعدات إلى غزة
سياسة التجويع
رأى أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأمة في غزة، حسام الدجني، أن "إلقاء جزء بسيط من المساعدات الإنسانية لا يلبي بأي حال من الأحوال احتياجات قطاع غزة المنهك بفعل سياسة التجويع الممنهجة، التي تنتهجها إسرائيل بحق أكثر من مليوني إنسان"، وأوضح لـ"العربي الجديد"، أنّ لإسرائيل أهدافاً سياسية من وراء خطوة إدخال المساعدات إلى غزة "من أبرزها محاولة التخفيف من حدة الضغوط الدولية المتصاعدة التي شوّهت صورتها أمام الرأي العام العالمي، في ضوء تصاعد وتيرة الغضب"، وبيّن أن "محاولة تحسين صورتها تركّز على مشاهد الإنزال الجوي وإدخال المساعدات، وذلك لصرف الأنظار عن الجريمة الكبرى المتمثلة في الإبادة الجماعية المستمرة بحق سكان القطاع". وفي رأيه "هناك هدف آخر لا يقلّ أهمية، يتمثل في تمهيد الرأي العام الإسرائيلي لاحتمالية تخلي تل أبيب عن إدارة الملف الإنساني في غزة لصالح الأمم المتحدة ومؤسّساتها، جزءاً من استحقاقات تهدئة محتملة، خصوصاً في ظل إصرار المقاومة الفلسطينية على هذا المطلب خلال المفاوضات الجارية".
العربي الجديد
0 تعليقات