مخططات إسرائيلية لضرب المنشآت النووية الإيرانية رغم التصدعات الداخلية
نشرت صحيفة نيويورك تايمز، الأسبوع الماضي، خبراً مفاده أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب منع إسرائيل من تنفيذ مخطط لتوجيه ضربة عسكرية واسعة ضد المنشآت النووية الإيرانية في مايو/أيار المقبل، أو تأجيلها، في محاولة لاستنفاد فرص التفاوض والتوصل إلى اتفاق يمنع إيران من امتلاك سلاح نووي. وقد جاء استدعاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 7 إبريل/نيسان الحالي إلى البيت الأبيض للقاء عاجل مع ترامب لهذا الغرض. قرار إسرائيل توجيه ضربة واسعة إلى المنشآت النووية الإيرانية ومنع الرئيس الأميركي ذلك، أو تأجيله، يحملان دلالات ومعاني عديدة.
نشر الخبر من دون صدور نفي إسرائيلي يؤكد أولاً أن إسرائيل قد اتخذت فعلاً قراراً بتوجيه ضربة إلى المنشآت النووية الإيرانية وانتقالها من مرحلة التهديدات والتصريحات إلى مراحل التنفيذ والتحضير العملي للهجمات، وتجهيز القوات اللازمة، والتنسيق الميداني مع القوات الأميركية. وتعتقد إسرائيل أنها قادرة على استغلال الوضع الإقليمي، المتشكل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، لتنفيذ رغبتها القائمة منذ أكثر من عقد بتوجيه ضربة عسكرية إلى المشروع النووي الإيراني، الذي أصبح هاجساً دائماً لدى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، ومحوراً أساسياً في المشروع السياسي والاستراتيجي لنتنياهو في المنطقة.
هدف مزدوج لضرب المنشآت النووية الإيرانية
ثانياً، يتضح أيضاً مما نُشر حتى الآن في الإعلام الإسرائيلي أن تل أبيب تسعى، من خلال توجيه الضربة العسكرية إلى المنشآت النووية الإيرانية، لتحقيق هدف مزدوج: تدمير القدرات النووية لطهران، والدفع الى انهيار النظام الإيراني. إذ تعتبر إسرائيل النظام الإيراني عدواً دائماً لها ولمصالحها في المنطقة. كما تعتقد أن التوصل إلى اتفاق مع طهران، على غرار اتفاق 2015، قد يساهم في استقرار النظام الإيراني، ويمنحه موارد مالية تُمكّنه من ترميم قدرات حزب الله وحركة حماس.
ثالثاً، يوضح التسريب وجود توافق إسرائيلي واسع بين المؤسستين السياسية والعسكرية – الأمنية على توجيه ضربة إلى المنشآت النووية الإيرانية بخلاف ما حدث عام 2010، حين عارض رئيس الأركان آنذاك غابي أشكنازي ورئيس الموساد مئير دغان تنفيذ الضربة، رغم طلب نتنياهو ووزير الأمن حينها إيهود باراك.
فشل المفاوضات الأميركية الإيرانية قد يعطي إسرائيل شرعية لتوجيه ضربة عسكرية إلى المنشآت النووية الإيرانية
رابعاً، قرار ترامب لا يترك مجالاً للشك في أن الإدارة الأميركية قادرة، عندما ترغب، على التأثير في قرارات الحكومة الإسرائيلية ومنعها من اتخاذ خطوات لا تتماشى مع المصالح الأميركية، خاصة أن توجيه ضربة قاسية للمشروع النووي الإيراني وتعطيله لسنوات يتطلب مساهمة فعلية من سلاح الجو الأميركي، سواء من خلال المشاركة المباشرة في الهجوم أو في الدفاع عن إسرائيل. خامساً، تشير المعلومات التي نُشرت حتى الآن إلى وجود اختلاف جوهري بين تصور إسرائيل لأهداف الاتفاق النهائي مع إيران وبين موقف الإدارة الأميركية، إذ تطالب إسرائيل بتطبيق النموذج الليبي، الذي يؤدي إلى تفكيك كامل للمشروع النووي الإيراني، بما يشمل إزالة جميع المنشآت النووية. في المقابل، تلمّح الإدارة الأميركية إلى أنها قد تكتفي بتقييد المشروع النووي الإيراني للأغراض المدنية السلمية، وتحديد سقف لتخصيب اليورانيوم، ومنع طهران من امتلاك سلاح نووي.
بالمجمل، لا يمكن القول إن بدء المفاوضات بين وواشنطن وطهران قد أزال تماماً احتمال توجيه ضربة إسرائيلية، ولو كانت منفردة، ضد إيران، فالأمر مرتبط بطبيعة ومضمون الاتفاق الذي قد يتم التوصل إليه. ففي حال فشلت المفاوضات، قد تحصل إسرائيل على شرعية ودعم أميركي لتوجيه ضربة عسكرية إلى المنشآت النووية الإيرانية، ما يجعل المفاوضات نفسها محفزاً لاحتمال تنفيذ ضربة عسكرية إسرائيلية، وربما بمشاركة أميركية.
علاوة على ذلك، لم تتخلَّ إسرائيل عن خيار توجيه ضربة منفردة للمشروع النووي الإيراني، حتى وإن تحقق تقدم معين في المفاوضات، إذ ترى أن المعطيات العسكرية الحالية تصب في مصلحتها، حيث تدعي أنها نجحت خلال العام الأخير في تدمير قدرات الدفاع الجوي الإيراني، وتقليص القدرات العسكرية الإيرانية في المنطقة، وأن النظام الإيراني يمر حالياً بواحدة من أضعف مراحله، ما يجعل هذا التوقيت الأنسب لتنفيذ الضربة. كما أن إسرائيل لا تثق تماماً بأن الإدارة الأميركية ستتوصل إلى اتفاق يحقق جميع أهدافها، ما يعزز قناعتها بضرورة الحفاظ على خيار العمل العسكري قائماً. وبذلك، تستمر إسرائيل في محاولة تطبيق ما أعلنته منذ بداية الحرب على غزة، بأنها تسعى إلى إعادة ترتيب المنطقة بما يتوافق مع مصالحها واحتياجاتها. فهي تسعى إلى تحويل الإخفاق الكبير إلى أداة لإعادة تشكيل الواقع الاستراتيجي في المنطقة.
يسعى نتنياهو لأن يُسجل إرثه التاريخي بالقضاء على المشروع النووي الإيراني
يمتلك نتنياهو مشروعاً استراتيجياً لإسرائيل، ويحاول حالياً تنفيذه، إذ يسعى لأن يُسجَّل إرثه التاريخي بالقضاء على المشروع النووي الإيراني، وتدمير قدرات حزب الله، وفرض الهيمنة على لبنان وسورية، والقضاء على المقاومة الفلسطينية، ومنع أي احتمال لإقامة دولة فلسطينية، لا أن يُربط إرثه بالإخفاق الكبير الذي تجسد في أحداث السابع من أكتوبر 2023، وباتهامه بالمسؤولية عن أسوأ ضربة تتلقاها إسرائيل في تاريخها. ومع ذلك، فإن نتنياهو لا يتصرف فقط بدافع المشروع الاستراتيجي الواسع، بل تحركه أيضاً اعتبارات شخصية ضيقة، سياسية وقضائية، إلى جانب تأثير الحسابات السياسية الداخلية. فهو يحتاج إلى استمرار حالة الحرب، ولو بوتيرة مختلفة، وإبقاء الشعور بحالة الطوارئ والتهديد داخل المجتمع الإسرائيلي، لضمان تماسك التحالف الحكومي ومنع أي احتجاجات جدية، خاصة في ظل بداية ظهور مؤشرات احتجاج داخل صفوف الجيش الإسرائيلي، ولو أنها حتى الآن محصورة في صفوف قوات الاحتياط وبمستوى تأثير محدود.
هل بدأت بوادر المعارضة للحرب على غزة؟
منذ اندلاع الحرب على غزة عقب هجوم 7 أكتوبر 2023، لم تشهد إسرائيل أي شروخ تذكر في الإجماع الداخلي حول أهداف الحرب أو سياسات الحكومة تجاه غزة، أو الجبهات الأخرى. غير أن الوضع بدأ يتغيّر جزئياً في مارس/آذار الماضي، بعد خرق الحكومة اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى واستئناف الحرب من قبل إسرائيل، الأمر الذي كشف بوضوح البعد السياسي وراء القرار، خاصة ارتباطه برغبة رئيس الحكومة في الحفاظ على التحالف الحكومي. فبعد استئناف الحرب، بدأت بوادر احتجاج داخل المجتمع الإسرائيلي، لكنها لم تكن مدفوعة باعتبارات أخلاقية أو إنسانية، بل بمخاوف متعلقة فقط بمصير الأسرى الإسرائيليين في غزة.
نُشرت خلال الأسابيع الأخيرة عدة رسائل موقّعة من قبل قوات الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، دعت الحكومة للتوصل إلى صفقة فورية للإفراج عن جميع الأسرى الإسرائيليين في قطاع غزة، حتى وإن تطلب الأمر وقفاً فورياً للعمليات العسكرية. كما أشارت إلى أن استمرار القتال لا يخدم أياً من أهداف الحرب المُعلنة، بل يؤدي إلى مقتل الأسرى، والجنود، والمدنيين الأبرياء، ويستنزف قدرات قوات الاحتياط. وأكد الموقعون على كافة العرائض أن الاتفاق هو السبيل الوحيد لإعادة الأسرى أحياء، مشيرين إلى أن الضغط العسكري لم يُفضِ في الماضي إلا إلى تفاقم الخسائر. تُعدّ هذه الرسالة أول وأبرز تعبير احتجاجي من داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية منذ اندلاع الحرب على غزة، ولو أن مضمونها اقتصر على انتقاد السياسات الحكومية والدعوة إلى صفقة تبادل، لكنها تتقاطع مع احتجاجات عائلات الأسرى، وتشير ضمناً إلى أن الحكومة، وتحديداً نتنياهو، تواصل الحرب من منطلقات سياسية وشخصية، لا أمنية.
لغاية، الآن لم تؤد هذه العرائض إلى تغييرات جدية في المشهد الإسرائيلي، إذ لم تدفع باتجاه حركات احتجاج جدية، ولم تؤد إلى تغيير موقف الحكومة، أو وقف الحرب والتوصل إلى اتفاق تبادل أسرى. بالرغم من هذا، فإن هناك أهمية لهذه العرائض، فهي تشكك في الادعاءات الحكومية بأن استئناف الحرب هدفه تحرير الأسرى، وتعكس، لأول مرة منذ بدء الحرب، بداية تصدّع في الإجماع الإسرائيلي، حتى داخل المؤسسة العسكرية، خاصة في وحدات تعد نخبوية، منها سلاح الجو ووحدات خاصة وشعبة المخابرات العسكرية "أمان". ويكمن القلق الحقيقي للمؤسسة الأمنية والسياسية في التأثير المحتمل لتلك العرائض على الرأي العام الإسرائيلي، لا داخل الجيش فقط.
لم تتحول رسائل ضباط وجنود قوات الاحتياط إلى كرة ثلج غير مضبوطة لغاية الآن في المشهد السياسي الإسرائيلي، ولم تدع تلك العرائض إلى رفض الخدمة العسكرية أو عصيان الأوامر. أي أنها بقيت لغاية الآن على مستوى الموقف، ولم تؤد إلى خطوات احتجاجية عملية، ما يقلل من تأثيرها، بخلاف تجارب تاريخية سابقة، أبرزها احتجاج ضباط وجنود احتياط بعد حرب أكتوبر 1973، ما ساهم في خسارة حزب العمل في انتخابات 1977، وحركة "أربع أمهات" التي تأسست بعد كارثة تحطم مروحيتين عسكريتين عام 1997 ودعت إلى تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 425 والانسحاب من جنوب لبنان، وساهمت في بلورة رأي عام داعم للانسحاب الذي تحقق فعلياً في العام 2000. وهذا ما يفسر خشية الحكومة الإسرائيلية وردها العنيف على نشر الرسائل. فقد قالت الحكومة إن نشر العرائض يلحق "ضرراً بالغاً بأمن الدولة وبموقفها الاستراتيجي خلال الحرب". بذلك تسعى الحكومة إلى نزع الشرعية عن هذه الرسائل واتهامها بإلحاق ضرر بمصالح إسرائيل وقت الحرب، حتى لا تستمر الرسائل في التدحرج والتوسع، وربما تشكل ضغطاً داخلياً جدياً على الحكومة الإسرائيلية لوقف الحرب، بعد أن تراجعت الضغوط الخارجية لوقفها.
في هذه الأجواء، جاء تسريب الخبر حول منع الرئيس الأميركي الحكومة الإسرائيلية من توجيه ضربة إلى المنشآت النووية الإيرانية. وهنا يطرح السؤال: هل يسعى نتنياهو مرة أخرى للهروب إلى الأمام عبر استخدام الأدوات العسكرية لضبط الحالة السياسية الداخلية، بما يتماشى أيضاً مع تحقيق رغبته الاستراتيجية في توجيه ضربة للمشروع النووي الإيراني؟