يعيش الغزيون اليوم مأساة مضاعفة، في ظل الاضطرار إلى النزوح مجدداً، وسط انعدام مقوّمات الصمود، في ظل عدم توقف الجيش الإسرائيلي عن إصدار أوامر إخلاء بعدد من المناطق
من دون سابق إنذار، تحوّل صباح الأحد 23 مارس/آذار الماضي إلى كابوس عاشه أهالي حي تل السلطان غرب مدينة رفح، جنوبي قطاع غزة، بعد ساعتين متواصلتين من القصف بالطائرات الحربية والمدفعية الإسرائيلية. ثم عمّ السكون المكان عند الساعة الثامنة صباحاً لدقائق عدة، تبعه أوامر إخلاء ألقتها طائرات الجيش الإسرائيلي على الأهالي، وقد أُمهلوا ساعتين للنزوح.
وقبل ذلك بأيام، كانت أوامر الإخلاء قد طاولت بلدات شمال قطاع غزة (بيت لاهيا وبيت حانون)، والبلدات الشرقية لمدينة خانيونس (جنوب)، ثم شملت مناطق أوسع وهي أحياء تل الهواء وحي الزيتون جنوب شرق مدينة غزة، ومدينة رفح كاملة، ليعيش الأهالي حالة من التشرد والنزوح، والفرار من القذائف إلى معاناة قاسية في خيام الإيواء. وأدى النزوح إلى كثافة سكانية مجدداً في منطقة المواصي غرب خانيونس، التي طالب الجيش الإسرائيلي الأهالي في جنوب القطاع بالنزوح إليها.
وعن رحلة النجاة من الموت، يروي محمود جودة (30 عاماً)، ، ما عاشه من أهوال يوم 23 مارس. يقول: "استيقظنا فجراً على صوت إطلاق نار كثيف ومرعب، ولم يتوقف حتى حلول الثامنة صباحاً. وسادت حالة من السكون لدقائق، قبل أن تنهال فوق رؤوسنا أوامر الإخلاء. كان الأمر مفاجئاً. خرجنا سيراً على الأقدام بعدما منع الجيش الإسرائيلي العربات والسيارات من التحرك لنقل المواطنين". يصف تلك اللحظات بـ"العصيبة والمرعبة". يضيف: "حملت طفليّ، أحدهم بعمر ستة أشهر، والثاني بعمر العام، وحقائب، فيما حملت زوجتي حقيبة صغيرة تحتوي على حفاضات وحليب وبعض الملابس لهما. وتفاجأت بعدد الأهالي الكبير الذين كانوا ينزحون معنا من مختلف الأعمار، بينهم كبار سن ومرضى". ويُقدّر العدد بـ50 ألف شخص أو أكثر.
طريق نزوح مغلق
بعد وصول جودة وعائلته إلى شارع فرعي لمدرسة دار الفضيلة، وبقي لهم عشرات الأمتار قبل دخول الشارع الرئيسي (البركسات)، تفاجأوا بوجود دبابة عسكرية إسرائيلية تغلق الطريق، وتطلق النار على الأهالي، بالإضافة إلى طائرات مروحية مسيرة. يتابع: "كان نحو 15 شاباً ملقَين على جانبي الطرقات بين مصابين وشهداء. أحد أبناء الجيران الذي كان يسير إلى جانبي أصيب في بطنه وسقط على الأرض، ثم أطلقت الدبابة قذيفة على حافلة صغيرة لنقل الركاب استقلها ثمانية شبان. وقبل أن تتحرك، تعرضت للقصف واستشهد كل من فيها. كما سقطت قنبلة على شاب".
يضيف: "ألقيت حقائب الأطفال أرضاً، وترك النازحون أمتعتهم من ملابس وطعام وأسطوانات غاز، وبدأنا نركض وسط إطلاق النار. طوال الوقت، كان هناك من يسقط على الأرض إما تعباً أو بسبب إطلاق الرصاص. وصلنا إلى طريق رملي يصعب السير فيه".
وبعد أربع ساعات من السير تحت أشعة الشمس والعطش والخوف، يقول: "بدأت التناوب مع زوجتي على حمل الطفلين"، لافتاً إلى أن "بعض الأطفال تاهت عن عائلاتها. بدأنا بتهدئتهم وعدم السماح لهم بالعودة إلى الخلف. كان السير قاسياً على كبار السن. أحد الشبان اضطر إلى حمل والده، وساعده آخرون حتى تجاوزوا منطقة الخطر".
من دون ملابس وأي مستلزمات للأطفال، عاش جودة النزوح الأكثر قسوة. يشرح: "لم يكن معنا حتى الحليب. الخوف دفعنا إلى ترك كل شيء لتخفيف الحمل وتسهيل الفرار. نعيش واقعاً صعباً من دون أدنى المقومات للاستمرار، وكأننا نزلنا درجات عدة تحت الصفر. بصعوبة، وفرنا غطاءين فقط نتقاسمها مساء. وبعد بحث طويل وتشرد لأيام، استقررنا في مكان، ونصبنا خيمة من الشوادر والأخشاب".
كغيره من النازحين، عاد جودة بعد سريان وقف إطلاق النار في 19 يناير/ كانون الثاني 2025 إلى منزله المدمر، واستصلح أجزاء منه، وحاول كغيره من أهالي رفح المنكوبة التأقلم بين الركام والدمار. ويقول: "استكثروا علينا تلك الحياة القاسية".
مجزرة المسعفين
في ذلك اليوم العصيب، ارتكب الجيش الإسرائيلي مجازر مروعة خلال محاصرته حي تل السلطان، وأعدم عشرات المدنيين، فيما لم تسلم طواقم الدفاع المدني والهلال الأحمر الفلسطيني من الموت، إذ قتل الجيش الإسرائيلي طاقماً مكوناً من 15 شخصاً، رغم تنسيقهم المسبق مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر لنقل المصابين والشهداء. محمد حسن الحيلة، أحد أفراد طاقم الإسعاف التابع للهلال الأحمر الفلسطيني، استشهد خلال تلك المجزرة. وحتى لحظاته الأخيرة، كان على تواصل مع والده عبر الهاتف.
يروي الأب المكلوم تفاصيل المجزرة الدموية التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي قائلاً: "اتصل بي محمد فجر الأحد وأخبرني بفقدان الاتصال بإحدى سيارات الإسعاف، وكان في مهمة إسعاف مصابين في حي النصر في رفح، بينما استقل زميله صالح معمر وزملاء له سيارة أخرى لإسعاف مصابين في منطقة الحشاشين. وبعد انتهاء المهمتين، كان الاتصال بسيارة الإسعاف الأولى التي ضمت الشهداء مصطفى خفاجة وعز الدين شعت ومنذر غبن لا يزال مفقوداً".
يضيف: "توجه صالح معمر إلى منطقة سيارة الإسعاف المفقودة، وأُخبِر بوجود زملائه خفاجة ومن معه على الأرض بعد استهدافهم".
ويقول: "عندما وصل ابني محمد بسيارة الإسعاف إلى المكان وهاتفني، كان يصرخ خائفاً: سيارتُنا محاصرة. طلبتُ به المرور بشارع فرعي طيني وعاودت الاتصال به. وظل يصرخ: بيطُخّوا فينا (يطلقون النار علينا). بعدها انقطع الاتصال، وأخبرت ضابط الإسعاف المسؤول أنهم محاصرون". ظلت عمليات البحث عن طواقم الدفاع المدني والهلال الأحمر مستمرة بعد انقطاع الاتصال بهم. وبالتنسيق مع الأمم المتحدة، عثر على جثمان مسؤول الطاقم أنور العطار، بالإضافة إلى جزء من المعدات والملابس ممزقة. ثم عثر على سيارات الإسعاف وأسفلها دفن الجيش الإسرائيلي جثامين طواقم الإسعاف والدفاع المدني وهم مقيدون. بدت ملامحهم مختلفة وكان بعضهم عبارة عن أشلاء وأحدهم مقطوع الرأس.
يتابع: "وجدناهم مقيدي الأيدي. كان هناك كسر في جمجمة ابني محمد ناتج عن ضربة بمؤخرة سلاح، كما ظهر أنه تعرض لإطلاق نار في الجزء العلوي. التزم نجلي بمهنته الإنسانية، وقد عوقب لتقديمه خدمة إنسانية يسعف فيها أبناء شعبه".
إخلاءات مستمرة
كان لأحداث الأحد الدموي تأثير بجميع أحياء مدينة رفح. الكثير من قاطني الأحياء الشرقية كحي الجنينة قرروا النزوح قبل المداهمة. وتقول رباب درويش (43 عاماً) : "ما شهده تل السلطان كان يسيطر على أفكارنا، وكنا نخشى تكرار السيناريو، علماً بأن الجيش الإسرائيلي لم يتوقف طوال الشهرين الماضيين، خلال عودتنا إلى منازلنا، عن إطلاق النار على المنازل واستهداف الأهالي".
تضيف: "لم يكن هناك وسائل نقل، فنزحنا نحن النساء في البداية، وكانت معي أمي المريضة (67 عاماً)، وبقي الرجال في البيت لجلب الأغراض بواسطة حافلة بعد يوم أو يومين. سرنا نصف المسافة. وكانت أمي تجلس على الأرض كل عشرة أمتار، وخصوصاً أننا كنا نحمل بعض الحقائب الضرورية. بعدها، وجدنا سيارة".
لم تعش درويش والنازحون من الأحياء الشرقية ما اختبره نازحو تل السلطان، لكنهم تجمعوا في أماكن النزوح في مواصي خانيونس، حيث المعاناة واحدة.
كانت درويش وأفراد عائلتها مترددين في العودة إلى رفح، نتيجة قرب منزلهم المدمر من قوات الجيش الإسرائيلي. لكن بعدما تكسرت خيمتهم خلال موجة البرد، عادوا إلى المنزل واستصلحوا جزءاً منه، لكنهم اضطروا إلى النزوح من جديد ونصب خيمة.
أما ضحى الشرقاوي، فنزحت من منطقة قيزان النجار، الواقعة جنوب شرق خانيونس. تقول : "رغم الظروف القاسية، كنا نستعد لاستقبال عيد الفطر وشراء ملابس العيد لأطفالنا، لتأتي أوامر الإخلاء مثل الكابوس. أُفضّل الموت على النزوح بعدما جربته وعشت واقعاً صعباً ومأساوياً، خصوصاً أن زوجي لا يعمل وليست لدينا خيمة. قررت التوجه إلى خيمة أمي". لكن والدتها كانت قد أزالت الخيمة في مواصي رفح للنزوح.
لم يقتصر النزوح على الأهالي الذين شملتهم أوامر الإخلاء، بل طاول النازحين في المناطق المحاذية للخرائط المنشورة، كحال القاطنين في مواصي رفح والمناطق الساحلية، مثل الأكواخ، وفش فرش بين مدينتي رفح وخانيونس. ويقول شقيق ضحى محمد وليد : "عمد معظم الناس هنا إلى تفكيك خيامهم، والانتقال إلى عمق المواصي، خوفاً من الرصاص العشوائي، فقد جربنا هذا الوضع من قبل، وعشنا فترات عصيبة مع إصابة واستشهاد العشرات".
وبعد بحث طويل، استطاع وليد إيجاد أرض فارغة بسبب امتلاء منطقة المواصي مرة أخرى بالنازحين من شرقي خانيونس وجميع أحياء رفح. يقول: "جربنا العام الماضي النزوح في الصيف على شاطئ البحر وعشنا حياة صعبة، بسبب غمر الخيام بالمياه، فنزحنا إلى مواصي رفح واعتقدنا أنها آمنة، وها نحن نعيش نزوحاً جديداً في وضع صعب". وسط كل هذه الصعوبات، كان السائقون يطلبون مبالغ مالية باهظة لنقل النازحين.