تستأنف إسرائيل ممارسة سياسة تجويع غزة بوصفها أداة للابتزاز
السياسي ضد حركة حماس وأهالي القطاع مع انتهاء الأسبوع الأول من إغلاق المعابر الحدودية ومنع إدخال أي من السلع والمواد الإغاثية لأكثر من مليوني فلسطيني. وإلى جانب الأدوات العسكرية والتلويح بعودة الحرب من جديد ضد أهالي القطاع، تستخدم إسرائيل ورقة تجويع غزة أداةً للضغط على المقاومة الفلسطينية لإجبارها على تمديد المرحلة الأولى من دون الدخول في المرحلة الثانية من الاتفاق وهي الأهم بالنسبة المقاومة لوجود الانسحاب الكامل من القطاع إلى جانب مفاتيح إفراج مختلفة عن الأسرى.وإذا كان تجويع غزة بوصفه جريمة حرب لطالما كان العالم يستفظع حصولها، إلا أنه اليوم يصعب أن تحظى باستنكار جدي وله مفاعيل سياسية في عواصم عربية وغربية رغم إيغال إسرائيل بانتهاكاتها. وزعمت صحف ومواقع إسرائيلية أن السلع التي وصلت إلى القطاع منذ وقف إطلاق النار 19 يناير/كانون الثاني الماضي وحتى لحظة إغلاق معبر كرم أبو سالم يوم الأحد الماضي تكفي القطاع فترة من الزمن تتراوح ما بين 5 إلى 6 أشهر، في خطوة رأى فيها متابعون أنها لتبرير منع تدفق السلع والمواد التموينية الأساسية.
وتظهر الأرقام كذب الادعاءات الإسرائيلية. وبلغ إجمالي السلع التي وصلت للقطاع منذ وقف إطلاق النار في 19 يناير وحتى إغلاق المعبر 161,820 طناً وهو رقم يشمل المساعدات والسلال التموينية والطرود الغذائية والسلع المختلفة، وفق رئيس المكتب الإعلامي الحكومي سلامة معروف. وأضاف معروف في تغريدة نشرها عبر حسابه الرسمي في منصة "إكس" أن نصيب الفرد الواحد من هذه السلع الغذائية لا يزيد على 60 كيلوغراماً، علما أن دراسة أكدت أن استهلاك مثل هذه السلع للفرد الواحد شهرياً بالضفة الغربية يصل إلى 34 كيلوغراماً شهرياً. ولفت إلى أن هذه الأرقام تؤكد أن ما يتوفر حالياً من هذه السلع لا يكفي لحاجة قرابة 2.5 مليون إنسان داخل القطاع سوى لأيام معدودة وليس شهور كما تدعي إسرائيل.
ويوم الأربعاء الماضي، أعلن برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة أن لديه ما يكفي من إمدادات الغذاء في قطاع غزة لإبقاء المطابخ العامة والمخابز مفتوحة لمدة تقل عن أسبوعين، بعد أن أوقفت إسرائيل دخول الأغذية والوقود والأدوية والإمدادات الأخرى إلى القطاع. وعقب وقف إدخال السلع عادت الأسعار لترتفع على نحو كبير. وفي محاولة لضبط الأسواق ومنع التلاعب بالأسعار أو احتكار البضائع والسلع؛ نفذت طواقم حماية المستهلك بوزارة الاقتصاد الوطني بالشراكة مع مباحث التموين خلال الأيام الثلاثة الماضية 103 جولة تفتيشية ميدانية، شملت 1005 منشآت تجارية متنوعة بين محال ومخازن. وأعلن مكتب الإعلام الحكومي أن الطواقم الميدانية سجلت 49 محضر ضبط، وأوقفت 11 تاجرا لمتابعة الإجراءات القانونية بحقهم، فيما تحفظت على 370 طنا من المواد الغذائية والسلع التموينية. لكن هذه الإجراءات لم توقف ارتفاع الأسعار حيث يقوم تجار كبار بتخزينها بعيدا عن أعين الرقابة وفي أماكن غير متوقعة مستغلين أيضاً الصعوبات التي تواجه العمل الحكومي والشُرطي في القطاع.
وبدأت مؤشرات عدة تظهر قرب حدوث أزمة إنسانية تذكّر بأزمة التجويع في الحرب، حيث ارتفعت أسعار السلع الأساسية بين ضعفين إلى ثلاثة أضعاف بالتزامن مع استمرار إغلاق المعبر التجاري. وباتت بعض المؤسسات الخدمية والخيرية تستحوذ على كميات كبيرة من البضائع التجارية لتوزيعها عن طريقها ما رفع الأسعار أيضاً وحرم كثيرين من القدرة على شرائها في ظل الاوضاع الاقتصادية بالغة الصعوبة.
وسبق أن استخدمت إسرائيل سياسة التجويع في مناطق شمال القطاع لإجبار أهلها على النزوح قبل عدة شهور، ضمن الخطة المعروفة بـ"خطة الجنرالات" الرامية لإفراغ المنطقة وإعادة الاستيطان إليها. وقبل "خطة الجنرالات"، وفي بداية حرب الإبادة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، عمدت إسرائيل إلى هذه السياسة حيث أغلق المعابر الحدودية مع القطاع وقام بقطع المياه والكهرباء، ولجأ لقصف المخازن والمحال التجارية الكبرى التي تتواجد بها السلع التموينية والغذائية.
تجويع غزة سلاح بيد إسرائيل
ويعد سلاح التجويع ورقة أساسية في يد حكومة بنيامين نتنياهو منذ بداية حرب الإبادة على القطاع، للضغط والابتزاز السياسي لتحقيق مكاسب سياسية ومكاسب ميدانية بعضها متعلق بالضغط لاستعادة أسراه، والبعض الآخر لتحقيق التهجير. وتميل إسرائيل إلى هذه الخطوة في كل حدث أو توتر مع حركة حماس في غزة، لا سيما خلال مراحل التفاوض المتعلقة بالأسرى الإسرائيليين لدى الحركة وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية لدفعها للتنازل.
ولم تلتزم إسرائيل بتنفيذ كامل تعهداته المتعلقة بتنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق لا سيما ما هو متعلق بإدخال البيوت المتنقلة والمساعدات الإغاثية ومواد إعادة الإعمار، فضلاً عن ضغط ميداني وعسكري متواصل. ومنذ أيام صعّدت إسرائيل من وتيرة القتل الميداني، ما تسبّب في استشهاد عدد من الفلسطينيين، إذ رصدت الجهات الحكومية منذ بداية اتفاق وقف إطلاق النار (في 19 يناير/كانون الثاني 2025) استشهاد 100 فلسطيني عدا عن إصابة المئات بفعل الاستهدافات الإسرائيلية.
إسماعيل الثوابتة: تحوّل إسرائيل الغذاء والماء والدواء إلى أوراق مساومة، في انتهاك صارخ لمبادئ حقوق الإنسان
ويقول مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي، إسماعيل الثوابتة، لـ"العربي الجديد"، إن سياسة التجويع التي تنتهجها إسرائيل ضد قطاع غزة تمثل جريمة حرب مكتملة الأركان، وفقاً للقانون الدولي الإنساني، وهي امتداد واضح لسياسة العقاب الجماعي الممارسة بحق المدنيين. ويضيف الثوابتة أن المادة 8 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية تصنف "تجويع المدنيين عمداً في أسلوب من أساليب الحرب، عبر حرمانهم من المواد الأساسية لبقائهم، بما في ذلك منع إمدادات الإغاثة"، في جريمة حرب تستوجب المحاسبة.
ويؤكد الثوابتة أن إسرائيل تستخدم هذه الأداة القاتلة وسيلة ضغط سياسي، في استهتار واضح بالمواثيق والأعراف الدولية، حيث يحوّل الغذاء والماء والدواء إلى أوراق مساومة، في انتهاك صارخ لمبادئ حقوق الإنسان. ويرى أن هذه الممارسات تأتي ضمن سياسة تطهير عرقي ممنهجة، تهدف إلى فرض وقائع جديدة على الأرض، من خلال قتل الحياة في غزة ببطء، مما يعكس النهج الإجرامي الذي تسعى إسرائيل إلى تكريسه بحق الشعب الفلسطيني. ويشير إلى أن هذا السلوك ليس معزولاً، بل هو جزء من سلسلة جرائم إسرائيل المستمرة، التي تهدف إلى كسر إرادة الشعب الفلسطيني وإجباره على الاستسلام عبر حصار خانق يهدد حياة قرابة 2.5 مليون إنسان في القطاع.
ضغط على المقاومة
من جهته، يقول الكاتب والمحلل السياسي إياد القرا، إن الإجراءات التي تتّبعها إسرائيل تأتي في إطار سياسة الضغط على المقاومة الفلسطينية، لا سيما في ما يتعلق بالمفاوضات ومحاولة التملّص من التزامات المرحلة الأولى. ويضيف القرا لـ"العربي الجديد" أن هذه السياسة ليست جديدة على إسرائيل، لكنها تؤثر سلباً على الوضع الإنساني في قطاع غزة، الذي يعاني أصلاً من أوضاع كارثية، فإسرائيل تستغل القضايا الأساسية، مثل أوضاع النازحين، وإعادة الإعمار، وإدخال مواد البناء للمستشفيات والبنية التحتية، لتستعملها أدوات ضغط على المقاومة، في محاولة لانتزاع تنازلات من دون تقديم أي مقابل حقيقي، خصوصاً فيما يتعلق بملف الأسرى.
إياد القرا: إسرائيل اعتادت على استخدام سياسة التجويع والحصار أداةً للعقاب الجماعي والضغط السياسي
ويشير القرا إلى أن إسرائيل اعتادت على استخدام سياسة التجويع والحصار أداة للعقاب الجماعي والضغط السياسي، وتسعى إلى استعادة أسراها من دون تقديم تنازلات جوهرية، مثل إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين وفق شروط مناسبة، كما أنها تربط انسحابها من غزة بملف الأسرى، في محاولة لفرض شروطها. ويلفت إلى أن هذه الإجراءات تتجاوز هذا الإطار، إذ تستمر في استهداف المدنيين على الحدود الشرقية، وفي رفح، وشمال القطاع، كما حدث أخيراً في بيت حانون، وهو ما يعكس محاولتها إبقاء أجواء الحرب قائمة، سواء عبر التصعيد العسكري أو الضغط النفسي.
ويضيف القرا أن هذه الخطوات تحمل مخاطر كبيرة على الصعيد الداخلي، إذ يعيش سكان غزة في ظل وضع اقتصادي صعب، يعتمدون فيه بشكل أساسي على المساعدات الإنسانية، ومن شأن وقف هذه المساعدات أن يفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية. ويؤكد أن المقاومة لا تزال صامدة، وتواجه الضغوط الإسرائيلية بالتمسك بمواقفها ورفض الإملاءات، كما أنها قد تلجأ إلى أساليب ضغط مختلفة، سواء عبر التصعيد الإعلامي، أو تحريك ملف الأسرى، أو حتى اللجوء إلى خيارات عسكرية لمواجهة إسرائيل، بحسب تطورات الأوضاع.