آخر المواضيع

معاريف: بن زايد يدرّس الدبلوماسية ويرفع الورقة الصفراء في وجه واشنطن


  لا تعبير مناسباً أكثر لوصف المناورة التي قامت بها الإمارات للأمريكيين في الأيام الأخيرة. فلا يزال الطرفان يتداولان الصفقة الكبرى التي رافقت اتفاقات إبراهيم، والتي تفضل فيها البيت الأبيض بأن يبيع لمحمد بن زايد سربين من الطائرات القتالية من طراز اف 35، من الأكثر تقدماً في العالم. الصفقة لم توقع بعد، وليس هذا فقط، بل اصطدمت بالمصاعب.


كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” هذا الأسبوع دراما من خلف الكواليس وما يختبئ بين سطورها أيضاً. يتبين أن الأمريكيين يطلبون من أصدقائهم في أبوظبي ضمانات على ألا تكون تكنولوجيا الطائرة المتطورة مكشوفة أو تتسرب إلى الصينيين. وقد سبق للإماراتيين أن وافقوا على عدم بيع الطائرة أو كل علم تنطوي عليه إلى دولة ثالثة. لكن الأمريكيين ليسوا هادئين. فهوا يعربون عن التخوف من تجسس صيني على أسراب الطائرات. قد يكون هذا تخوفاً حقيقياً، وقد يكون كلمة السر التي تعبر عن عدم الثقة من جانبهم بالتعهدات الإماراتية لعدم كشف الطائرة على الآخرين. مهما يكن من أمر، واشنطن ليس مطمئنة.

يدور الحديث عن صفقة رزمة ثلاثية. الأمريكيون يبيعون الإماراتيين 50 طائرة قتالية من الأفضل في العالم، مقابل 10 مليار دولار. وتضاف إليها 13 طائرة هجومية غير مأهولة بمبلغ 3 مليار دولار، ومنظومات أخرى ووسائل قتالية مختلفة بـ 10 مليار إضافية. بالإجمال 23 مليار دولار. لا مجال للقلق على صناعة السلاح الأمريكي، لا على شركة “لوكهايد مارتن” التي تنتج الطائرات، ولا الشركات الأخرى التي ساهمت بالأجهزة المختلفة. وكما هو وارد في هذا الجانب من الكرة الأرضية، فعندما لا يعجب أحداً ما شيء فإنه يعربد بغضب، وفي النهاية يلقى ما يطلبه. وهذا ما حدث: أبوظبي ضربت الطاولة وستتلقى ما تشاء.

أول أمس، فور التسريب، وصل وفد أمني رفيع المستوى من أبوظبي إلى واشنطن للبحث في تفاصيل الصفقة. من لا يريد شراء طائرة، لا يرسل مندوبيه لشرائها، بل يبقى في البيت. نشر التسريب عن قصد عشية هبوطهم هناك لإجبار الأمريكيين على إعادة احتساب المسار. مرن أكثر.

نادر أن يقع مثل هذا الانفجار، ونادر أكثر أن يريد أحد الطرفين أو كلاهما رواية ما حدث للرفاق. وشائقة على نحو خاص قراءة أقوال موظف إماراتي كبير اقتبسته الصحيفة وهو يشرح ما الذي دفع مرسليه للإعلان عن الانسحاب. “مطالب فنية، وقيود عملياتية سيادية، وإعادة تقدير للكلفة مقابل المنفعة”، هكذا علل بيانهم لإلغاء الصفقة. الكلفة مقابل المنفعة؟ ماذا حصل؟ فجأة، تحولت هذه الرزمة التي كانت تطلعهم والتي طلبوها منذ سنين ولم يحصلوا عليها، لتكون غير مجدية؟ استهدفت هذه الجملة بث تلميح واضح بأن تصبح هذه الطائرة القتالية، التي تعدّ الأفضل في العالم، بضاعة لا داعي لشرائها في الأيام التي تتفاقم فيها علاقات أبوظبي مع طهران.

وهو لذع استهدف الضغط على الأمريكيين، ولكن مشكوك أن يكون فيه قدر من الصدق. محمد بن زايد لن يتنازل عن دمية محبوبة بهذا القدر مثل اف 35، التي تمنحه بطاقة دخول إلى النادي الاعتباري قبل لحظة من سكوته في يديه. وهو في هذه الأثناء، يستخدم الإيرانيين كورقة ضغط على الأمريكيين وربما ليس فقط عليهم.

إسرائيل ليست ابنة مفضلة
ولكن القصة ليست إيران، ولا حتى إسرائيل، التي حرك اتفاق السلام معها الرئيس ترامب للموافقة على بيع الطائرة الأكثر تقدماً للإماراتيين. ما يقلق الأمريكيين هو التسلل الصيني إلى كل مكان. هذا هو أحد الأسباب الأساس التي جعلت باراك أوباما يرفض بيع الطائرة الاعتبارية لـبن زايد رغم مناشدته طويلاً.

بعد وقت قصير من دخول بايدن إلى البيت الأبيض، كشف له رجال استخباراته بأن الصينيين يقيمون منشأة عسكرية قرب أبوظبي. وأبقي هذا المشروع سراً، وما إن انكشف حتى ناشد الأمريكيون أصدقاءهم بوقف إنشائها. ترى واشنطن في الإمارات صديقاً، بل وشريكاً استراتيجياً مهماً في الشرق الأوسط. لكن يبدو أن هناك، في عمق الصحراء، يرون هذا بشكل مختلفاً قليلاً. بالنسبة لهم، الأمريكيون أصدقاء، ولكنهم ليسوا الوحيدين. تخشى واشنطن، وعن حق، من أن الصينيين إذا لعبوا في الملعب الإماراتي فسينجحون في وضع أيديهم، بإذن أم بدهاء، على معلومات حساسة وتكنولوجيات متطورة  يعود أصلها إلى الولايات المتحدة.

القلق الأمريكي له أساسه؛ فالإمارات تتسكع بالفعل مع حكومة الصين. في السنوات الأخيرة، في سلسلة من الاتصالات التي أخذت بالنضج، منح الإماراتيون كبرى شركات الاتصال الصينية “هواوي” حقوقاً لتركيبة شبكة الخلوي من الجيل الخامس في الإمارات. فالسيطرة على شبكات هواتف دولة غاية هي الحلم الرطب لكل جهاز استخبارات. فهي تسمح لأصحابها -إلى جانب الاستماع للمكالمات والتسلل إلى مراكز الخدمة- بالتقاط المضامين من كل نوع كان، وزرع المعلومات، وعند الحاجة زرع التشويشات أيضاً.

إن بيع الـ اف 35، وإن كانت صفقة كبرى، هو ساحة واحدة أخرى من الصراع بين الصين والولايات المتحدة. لقد درج على القول عن الإمارات أنها تحت التهديد، ولهذا فإنها تتسلح بأفضل الوسائل القتالية. أما عملياً فإن بن زايد يخلط الجميع معاً: فقد فتح مع الإيرانيين حواراً مباشراً في الأشهر الأخيرة، ومع الأمريكيون الذين يعتبرون القوة العظمى الأقرب إليه من الجميع، وكذا مع الصينيين الذين يتبين انهم أصبحوا لتوهم ضيوف شرف في مملكته، ثم مع الإسرائيليين بعلاقات سلام قريبة، ومؤخراً مع الأتراك وزعيمهم أردوغان، محطماً الجليد بعد سنوات من العداء.

لا مجال للعجب منه ومن الشكل الذي يخلط فيه الأوراق. ثمة مجال للعجب بمن يعجب. هكذا يرمم البيت وتعزز أساساته. إذا منح فضلاً لقوة عظمى واحدة، سيثير عليه شهية أو ضغينة أخرى. عندما  يقرب إليه الجميع ويتحكم بحرارة العلاقات، فبوسعه أن يتمتع بكل العوالم: يتاجر مع جيرانه الإيرانيين، ويشتري السلاح من الأمريكيين، ويبتسم للإسرائيليين، ويتقرب من الأتراك. وبهذه الطريقة يقرب احتمال نية أحدهم الشر له. لن تحظى إسرائيل هناك بالأفضلية على الآخرين، مثلما لم تحظ أي  قوة عظمى أخرى على فضل مهم على غيرها. سنكون، في أفضل الأحوال، صديقا متساوياً بين متساوين.

أمام فهم حكومات الخليج، سنكون نحن الإسرائيليين سواسية مثل الأمريكيين والصينيين، لسنا أصدقاء روحهم. سيبتسمون لنا بكياسة وباحترام، وسيستقبلوننا ببشاشة، بل وسيتباهون بالعلاقات معنا، ولكننا سنبقى بالنسبة لهم مادة بناء لتعزيز عواميد البيت.

بقلم: جاكي خوجي

 معاريف 17/12/2021

إرسال تعليق

0 تعليقات

تابعنا على وسائل التواصل الاجتماعي

أخر المنشورات

أهم الاخبار

تابعونا على موقعنا اخبارنا سوا